فصل: الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة

والحوادث المشهورة وهو مملوك إبراهيم كتخدا تابع سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي تقلد الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه في سنة 1168 وكان قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى لا يميل لسوى الجد ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل ويحب معالي الأمور من صغره‏.‏

واتفق أن بعض ولاة الأمور تشاوروا في تقليده الإمارة فنقل إليهم مجلسهم وذكر له مساعدة فلان وممانعة فلان فقال‏:‏ أنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفي لا بمعونـة أحـد‏.‏

ولـم يـزل يرقى في مدارج الصعود حتى عظم شأنه وانتشر صيته ونما ذكره وكان يلقـب بجـن علـي ولقب أيضًا ببلوط قبان وانضم إلى عبد الرحمن كتخدا وأظهر له خلوص المحبة وأغثـر هو أيضًا به وظن صحة خلوصه فركن إليه وعضده وساعده ونوه بشأنه ليقوى به على نظرائـه مـن الاختياريـة والمتكلميـن‏.‏

واتفـق أنـه وقـع بيـن أحمـد جاويـش المجنـون تابعه وبين أهل وجاقه حادثة نقموا عليه فيها وأوجبوا عليه النفي بحسب قوانينهم واصطلاحهم وأعرضوا الأمر على عبـد الرحمـن كتخدا أستاذه فعارض في ذلك ولم يسلم لهم في نفي أحمد جاويش ورأى ذلك نقصًا في حقه فتلطف به بعضهم وترجوا في إخراجه ولو إلى ناحية ترسا بالجيزة أيامًا قليلة مراعـاة وحرمـة للوجاق فلم يرض وحنق واحتد‏.‏

فلما كان في اليوم الثاني واجتمع عليه الأمراء والأعيان على عادتهم قال لهم‏:‏ أيها الأمراء من أنا أجابه الجميع بقولهم‏:‏ أستاذنا وابن أستاذنا وصاحب ولائنا‏.‏

قال‏:‏ إذا أمرت فيكم بأمر تنفذوه وتطيعوه قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان والجمعية بداره وأنا أول من أطاعه وآخـر مـن عصـى عليه‏.‏

فلم يسعهم إلا قبول ذلك بالسمع والطاعة وأصبح راكبًا إلى بيت علي بـك وتول الديوان والجمعية إليه من ذلك اليوم واستفحل أمره ولم يمض على ذلك إلا مدة يسيرة حتى أخرج أحمد جاويش المذكور وحسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري كما تقدم ثم غدر به أيضًا وأخرجه إلى الحجاز من طريق السويس وأرسل معه صالح بك ليوصله إلى ساحـل القلـزم فلمـا شيعه هناك أرسل بنفي صالح بك إلى غزة ثم رد إلى رشيد ومنها ذهب إلـى منيـة ابـن خصيـب وتحصـن بهـا وجـرد عليه المترجم التجاريد ولم يزل ممتنعًا بها حتى تعصب علـى المترجـم خشداشينـه وأخرجـوه منفيـًا إلـى النوسـات ثـم وجهـوه إلـى السويـس بعـد قتـل حسـن بـك الأزبكـاوي ثـم منهـا إلـى الجهـة القبليـة بعـد قتـل عثمـان بـك الجرجـاوي وانضـم إلـى صالح بك وتعاقد معه وحضر معه إلى مصر وقتل الرؤساء من أقرانه ثم غدر بصالح بك أيضًا كما تقدم مجمل ذلـك ثـم نفى باقي الأعيان وفرق جمعهم في القرى والبلدان وتتبعهم خنقًا وقتلًا وأبادهم فرعًا وأصـلًا وأفنـى باقيهـم بالتشريـد وجلـوا عـن أوطانهـم إلـى كـل مكـان بعيـد واستأصـل كبار خشداشينه وقبيلته وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته‏.‏

وأخرب البيوت القديمة وأخـرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكـر مـن سائـر الأجنـاس واستخلـص بلـاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان ثم جرد عساكره إلى البلاد الحجازية ونفذ أغراضه بها ثم التفت إلى البلاد الشامية وتابع إرسال البعوث والسرايا والتجاريد إليها وقتل عظماءها وكبراءها وولاتها واستولت أتباعه على البلاد الشامية حتى أنهم أقاموا في حصار يافا أربعة أشهر حتى ملكوها وعمر قلـاع الإسكندريـة ودميـاط وحصنهـا بعساكـره ومنع ورود الولاة العثمانيين وكان يطلع كتب الأخبار والتواريخ وسير الملوك المصرية ويقول لبعض خاصته‏:‏ إن ملوك مصر مثلنا مماليك الأكراد مثل السلطان بيبرس والسلطان قلـاون وأولادهـم وكذلـك ملـوك الجراكسـة وهـم مماليـك بني قلاون إلى آخرهم كانوا كذلك وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها‏.‏

وينوه ويشير بمثل هذا القول بما في ضميره وسريرته ولو لم يخنه مملوكه محمد بك لرد الأمور إلى أصولها وكان لا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين مثل محمد أفندي باشا الراقم ومرتضى أغا وأحمد أفندي يجالسونه بالنوبة في أوقات مخصوصة مع غاية التحـرز فـي الخطـاب والمسامـرة بوجيـز القـول وكاتـب إنشائه العربي الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري وكاتبه الرومي مصطفى أفندي الأشقر ونعمان أفندي وهو منجمه أيضًا ويجل من العلماء المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الحماقي وكاتبه القبطي المعلم رزق بلغ في أيامه من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا ومن مسقاته كرع المعلم إبراهيم الجوهري وأدرك ما أدركه بعده في أيام محمد بك وأتباعه من بعده وتتبع المفسدين والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالـات وعاقبهـم بالضـرب الشديـد والإهانـة والقتـل والنفـي إلى البلاد البعيدة‏.‏

ولم يراع في ذلك أحدًا سواء كان متعممًا أو فقيهًا أو قاضيًا أو كاتبًا أو غير ذلك بمصر أو غيرها من البناذر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق من العرب وأهل الحوف ألزم أرباب الأدراك والمقادم بحفظ نواحيهـم ومـا فـي حوزهـم وحدودهـم وعاقـب الكبـار بجنايـة الصغـار فأمنـت السبـل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بمفرده ليلًا راكبـًا أو ماشيـًا ومعـه حمـل الدراهـم والدنانير إلى أي جهة ويبيت في الغيط أو البرية آمنًا مطمئنًا لا يـرى مكروهـًا أبـدًا‏.‏

وكـان عظيـم الهيبـة اتفـق لأناس ماتوا فرقًا من هيبته وكثيرًا من كان تأخذه الرعـدة بمجـرد المثـول بيـن يديـه فيقـول لـه‏:‏ هـون عليـك ويلاطفـه حتى ترجع له نسه ثم يخاطبه فيما طلبـه بصـدده وكـان صحيـح الفراسـة شديـد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بني المتخاصمين ولا يحتاج في التفيهم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيهـا أو يمزقهـا‏.‏

وألبـس سراجينـه قواويـق فتلـى بالفـاء من جوخ أصفر تمييزًا لهم عن غيرهم من سراجين أمرائه ولم يزل منفردًا في سلطنة مصر لا يشاركه مشارك في رأيه ولا في أحكامه وأمراؤها وحكامها مماليكه وأتباعه فلم يقنع بما أعطاه مولاه وخوله من ملك مصر بحريها وقبليها الذي افتخرت به الملوك والفراعنة على غيرها من الملوك وشرهت نفسه وغرته أمانيه وتطلبت نفسه الزيادة وسعة المملكة وكلف أمراءه الأسفار وفتح البلـاد حتـى ضاقـت أنفسهـم وشمـوا الحروب والغربة والبعد عن الوطن فخالف عليه كبير أمرائه محمد بك ورجع بعد فتح البلاد الشامية بدون استئذان منه واستوحش كل من الآخر فوثب عليه وفر منه إلى الصعيد وكان ما كان من رجوعه بمن انضم إليه وخامر معه وكانت الغلبة له على مخدومه وفر منه إلى الشـام وجنـد الجنود وقصد العود لمملكته ومحل سيادته فوصل إلى الصالحية‏.‏

وخرج إليه محمد بـك وتلاقيـا وأصيـب المترجـم بجراحـة فـي وجهـه وأخـذ أسيـرًا وقتـل مـن قتـل من أمرائه ورجع محمد بك وصحبته مخدومه المذكور محمولًا تخت فأنزلوه في داره بدرب عبد الحق فأقام سبعة أيام ومات والله أعلم بكيفية موته‏.‏

وكان ذلك في منتصف شهر صفر من السنة‏.‏

فغسل وكفن وخرجـوا بجنازتـه وصلـى عليـه بمصلـى المؤمنيـن فـي مشهـد حافـل ودفـن بتربـة أستـاذه إبراهيـم كتخدا بالقرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي ومدفنهم مشهور هناك وبواجهته سبيل يعلوه قصر مفتح الجوانـب‏.‏

ومـن مآثـره العمـارة العظيمـة بطندتـا وهـي المسجد الجامع والقبة على مقام سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه والمكاتب والميضأة الكبيرة والحنفيات وكراسي الراحة المتسعة والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة النافذة من الجهتين وما بها من الحوانيت للتجار وسميت هناك بالغورية لنزول تجار أهل الغورية بمصر في حوانيتها أيام مواسع الموالد المعتادة لبيع الأقمشة والطرابيش والعصائب وكان المشد على تلك العمارة المعلم حسن عبد المعطي وكان من الرجال أصحاب الهمم وولاه سدانة الضريح عوضًا عن أولـاد سعـد الخـادم لسوء سيرتهم وظلمهم فنكبهم المترجم وأخذ ما أمكنه أخذه من مالهم وهو شيء كثير وأنفقه في هذه العمارة ووقـف عليهـا أوقافـًا ورتـب بالمسجـد عـدة مـن الفقهـاء والمدرسيـن والطلبة والمجاورين وجعل لهم خبزًا وجرايات وشوربة فـي كـل يـوم وجـدد أيضـًا قبـة الإمـام الشافعـي رضـي اللـه عنـه وكشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل الأيوبي في القرن الخامس وقد تشعث وصدئ لطول الزمان فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشبالنقي الحديث ثم جعلوا عليـه صفائـح الرصـاص المسبـوك الجديـد المثبـت بالمساميـر العظيمة وهو عمل كثير‏.‏

وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والأصباغ وكتب بإفريزها تاريخًا منظومًا صالح أفندي‏.‏

وهدم أيضًا الميضأة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الأركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء وحول الميضأة كراسي راحة بحيضان متسعـة تجـري مياهها إلى بعضها وماؤها شديد الملوحة‏.‏

ومن إنشائه أيضًا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها من يجري إلى قبلي وبالعكس وخانًا عظيمًا يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتـى بلغـوا المـاء ثـم بنـوا لهـا خنازيـر مثـل المنـارات مـن الأحجـار والدبـش والمؤمـن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن والأحجار واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجـر النحيب وعقدوا العقود والقواصر والأعمدة والأخشاب المتينة‏.‏

وكان العمل في سنة خمس وثمانيـن‏.‏

ومـات المترجـم قبـل إتمامها وبناء أعاليها‏.‏

وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لأن النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره واندفع إلى ناحية انبابة ولم تزل الـأرض تعلـو والأتربـة تزيـد فيمـا بيـن زاويـة تلـك العمـارة إلـى شـون الغلـال ويزيـد نومها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء إلا في سنين الغرق‏.‏

ثم فحش الأمر وبنى الناس دورًا وقهاوي في بحرى العمارة وسبحوا إلى جهة قرب الماء مغربين وألقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الأرض وعلت وزادت حتى صارت كيمانًا تنقبض النفوس مـن رؤيتهـا‏.‏

وتمتلـئ المنافـس مـن عجاجها وخصوصًا في وقت الهجير بعد أن كانت نزهة للناظرين‏.‏

ولقد أدركنا فيما قبل ذلك تيارًا لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور إلى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الأبزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب إلى الجيعانيـة وينعطـف إلى قصر الحلي والشيخ فرج صيفًا وشتاء ولا يعوقه عائق ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئًا من التراب فإن اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهـذا شـيء قـد تودع منه ومن أمثاله وآخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للأمور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان فإنه كان يحذو طريق الحكام السالفين إلى أن ضعفت شوكته بتآمر الأصاغر وقيد حكمه بعد الإطلاق وترك هـذا الأمـر ونسي بموته وتقليد الأغاشم وتضاعف الحال حتى أن بعض الطرق الموصلة إلى بولاق سدت بتراكم الأتربـة التـي يلقيهـا أهـل الأطـارف خـارج الـدروب ولا يجـدون مـن يمنعهـم أو يردعهـم وقدرت علو الأرض بسبب هذه العمارة زيـادة عـن أربـع قامـات فإننـا كنـا نعـد درج وكالـة الأبزارييـن مـن ناحيـة البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفًا وعشرين درجة وكذلك سلـم قيطـون بيـت الشيخ عبد الله القمري وقد غابت جميعها تحت الأرض وغطتها الأتربة ولله عاقبة الأمور‏.‏

ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق التي مات بها والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الآن مسكن الست نفيسة‏.‏

وبالجملة فأخبار المترجـم ووقائعـه وسيرتـه لو جمعت من مبدأ أمره إلى آخره لكانت مجلدات وقد ذكرنا فيما تقدم لمعًا من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل ولعل العود يخضر بعد الذبول ويطلع النجم بعد الأفول أو يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا منن نظره المتغابي في أيابه‏:‏ زمن كأحلام تقضى بعده زمـن نعلـل فيه بالأحلام ولله في خلقه مـن قديـم الزمـان عـادة وانتظـار الفـرج عبـادة نسألـه انقشـاع المصائـب وحسـن العواقب‏.‏

ومات سلطان الزمان السلطان مصطفى بن أحمد خان تولى السلطنة في سنة 171 فكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة وكانت لـه عنايـة ومعرفـة بالعلـوم الرياضيـة والنجوميـة ويكـرم أرباب المعارف‏.‏

وكان يراسل المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديهما ويرسل إليهما الصلات والكتب وأرسل مرة إلى الشيخ الوالـد ثلاثـة كتـب مكلفـة مـن خزانتـه وهـي كتـاب القهستانـي الكبيـر وفتـاوى انقـروي ونور العين في إصلاح جامع الفصولين كلاهما في الفقه الحنفي وله مؤلف في الفن دقيق ينسب إليه‏.‏

وتولى بعده السلطان عبد الحميد خان جعل الله أيامه سعيدة‏.‏

ومات الأمير علي بك الشهير بالطنطاوي وهو من مماليك علي بك المذكور وكان من الشجعان المعروفيـن والفرسـان المشهوريـن ولـم ينافـق علـى سيـده مـع المنافقيـن ولـم يمـرق مـع المارقين ولم يزل مع مخدومه فيما وجهه إليه حتى قتل بالصالحية بين يديه‏.‏

ومات الرئيس المبجل الأمير اسمعيل أفندي الروزنامجي رئيس الكتبة بمصر وكان إنسانًا حسنًا منـور الوجـه والشيبة ضابطًا محررًا خيرًا أصيب بوجع في عينيه فوعده الحاج سليمان الحكاك بشـيء مـن الكحـل وأودعـه فـي ورقـة وضعهـا فـي طـي عمامتـه وكـان بهـا ورقـة أخـرى فـي شـيء مـن السليمانـي لم يتذكرها وهو أبيض والكحل أيضًا أبيض فلما حضر عندما خرج الورقة التي بها السليماني من عمامته وأعطاه له وأمره يكتحل منها وقت النوم يظنها أنـه ورقـة الكحـل ثـم انصـرف إلـى داره‏.‏

فلمـا نـزع عمامته وقت النوم رأى ورقة الكحل وتذكر عند ذلك الأخرى فلم يمكنه الذهاب والتدارك ليلًا لبعد المكان وفوات الوقت والمسكين صلى العشاء واكتحل من الورقة فزال بصره في الحال واستمر مكفوفًا إلى أن مات سحر ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجـة مـن آخـر السنـة وصلـي عليـه مـن الغـد بسبيل المؤمنين ودفن بقبره الذي أعده لنفسه بالقرب من بن أبي جمرة عوضه الله الجنة‏.‏

ومات الرجل الصالح الأمير مراد أغا تابع قيطاس بك القطامشي وكـان منجمعـًا عـن النـاس راضيًا بحاله قانعًا بمعيشته ملازمًا على حضور الجماعة والصلوات في المسجد‏.‏

توفي يوم الأربعاء سابع عشرين شوال وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن بالقرافة عند الطحاوي‏.‏

ومـات الأميـر حسـن كتخـدا مستحفظـان القازدغلي الملقب بقرا وكان من الأمراء الكبار أصحـاب الحـل والعقـد بمصـر فـي الزمـن السابـق وانقطـع فـي بيته عن المقارشة والتداخل في الأمور وكان مريضًا بمرض الأكلة في فمه ولذلك تركه علي بك وأهمله حتى مات يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة عن ذلك المرض وورم في رجليه أيضًا ودفن في يومه ذلك بالقرافة‏.‏

ومات أيضًا مصطفى أفندي الأشقر كاتب ديوان علي بك خنقه خليل باشا بالقلعة في سابع عشرين جمادى الأولى بموجب مرسوم من الدولة حضر بطلب رأسه ورأس عبد الله كتخدا ونعمـان أفنـدي ومرتضـى أغـا فوجـد محمـد بـك أمضـى الأمـر فـي عبـد الله كتخدا وقطع رأسه في منزلـه بيـد عبـد الرحمـن أغـا ونعمـان أفنـدي ذهـب إلى الحجاز إثر موت علي بك وكذلك مرتضى أغا اختفى وتغيب وذهب من مصر ولم يعلم له مكان واستمر المترجم فطلبه الباشا فلما حضر إليه أمر بخنقه فخنقوه وسلخوا رأسه ودفنوه بالقرافة وأخذ موجوداته الباشا إلى الميرى‏.‏

ومات الأجل المبجل الضابط الماهر اسمعيل بن عبد الرحمن الرومي الأصل ثم المصرب المكتب الملقـب بالوهبـي شيـخ الخطاطيـن بمصـر كتـب الخـط وجوده على شيخ عصره السيد محمد النوري وبرع واجتهد واشتغل قليلًا بالعلم وكتبي بيده المصاحف مرارًا‏.‏

وأما نسخ الدلائل والأحزاب والـأوراد السبعـة فممـا لا يحصـى كثـرة وكـان إنسانـًا حسنـًا بشوشـًا محبـًا للنـاس فيـه مكارم الأخلاق وطيب النفس كتب عليه غلاب من بمصر من أهل الكتابة وكان صاحب نفس وهمة عاليـة‏.‏

وكـان يلـي منصـب سيـده فـي الخدمـة العسكرية وكتب عدة ألواح كبار وتوجه بها بإشارة بعـض أمراء مصر إلى المدينة المنورة‏.‏

فعلقها في المواجهة الشريفة بيده ونال بهذه الزيارة الشريفة والخدمة المنيفة سرورًا وشرفًا‏.‏

ولما كانت سنة 1181 أتى الأمر من صاحب الدولة بتوجيه بعض عساكر مصرية تقوية للمجاهدين‏.‏

فكان هو من جملة المعينين فيهم رئيسًا في طائفتهم فتوجـه إلـى الإسكندريـة وركـب منهـا إلـى الـروم وأبلـى فـي تلـك السفر بلاء حسنًا‏.‏

وبعد مدة أذن لهم بالانصراف فعاد إلى مصر وقد وهنت قواه واعترته الأمراض وزاد شكواه وهو مع ذلك يكتب ويفيد ويجيز ويعيد ويحضر مجالس أهل الخط على عادته‏.‏

وجلس ملازمًا لفراشه مدة حتى وافاه الحمام ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة فجهز وصلي عليه بمشهد حافل في مصلـى المؤمنيـن ودفـن عنـد ابـن أبي جمرة قرب العياشي في قبر كان أعده لنفسه منذ مدة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله‏.‏

استهلت ووالي مصر خليل باشا محجور عليه ليس له في الولاية إلا الاسم والعلامـة علـى الأوراق والتصرف الكلي للأمير الكبير محمد بك أبي الذهب والأمراء وأعيان الدولة مماليكه وأشرافاتـه والوقـت فـي هدوء وسكون وأمن والأحكام في الجملة مرضية والأسعار رخية وفي الناس بقية وستائر الحياء عليهم مرخية شعر‏:‏ وما الدهر في حال السكون بساكن ولكنه مستجمع لوثوب ومات في هذه السنة الإمام العلامة والتحرير الفهامة حامل لواء العلوم على كاهل فضله ومحرر دقائق المنطوق والمفهوم بتحريره ونقله من تكحلت بحبره عيون الفتوى وتشنفت المسامع بما عنه يروى وارتفع من حضيـض التقليـد إلـى ذرا الفضائـل وسابـق فـي حلبـة العلـوم فحـاز قصـب الفواضـل الـروض النضير الذي ليس له في سائر العلوم نظير وهو في فقه النعمان الجامع الكبير عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام سيدي ووالدي بدر الملة والدين ابي التدائي حسن بن برهان الديـن إبراهيـم ابـن الشيخ العلامة حسن ابن الشيخ نور الدين علي بن الولي الصالح شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الزيلعي الجبرتي العقيلي الحنفي وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة تحت حكم الخطي ملك الحبشة وهم عدة بلاد معروفة تسكنها هذه الطائفة وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهبون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير وينسبون إلى سيدنا أسلم بـن عقيـل بـن أبـي طالـب وكـان أميرهـم فـي عهـد النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم النجاشـي المشهور الذي آمن به ولم يره وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغيبة كما هو مشهور في كتب الأحاديث وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمجاورة في طلب العلم ويحجون مشاة ولهم رواق بالمدينة المنورة ورواق بمكة المشرفة ورواق بالجامع الأزهر بمصر وللحافـظ المقريـزي مؤلـف فـي أخبـار بلادهـم وتفصيـل أحوالهـم ونسبهم‏.‏

ومنهم القطب الكبير والمعتقد الشهير الشيخ اسمعيل بن سودكين الجبرتي تلميذ الشيـخ ابـن العربـي ويسمـى قطـب اليمـن والشيخ عبد الله الذي ترجمه الحافظ السيوطي في حسن المحاضرة وهـو الذي كان يعتقده الملك الظاهر برقوق وأوصى عند موته بأن يدفن تحت قدمه بالصحراء ومنهم الولي العارف الشيخ علي الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان الأشرف قايتباي وارتحل إلى بحيرة ادكو فيما بين رشيد والإسكندرية وبنى هناك مسجدًا عظيمًا ووقف عليه عدة أماكن وقيعان وأنوال حياكة وبساتين ونخيل كثيرة وهو موجود إلى الآن عامر بذكر الله والصلاة وهـو تحـت نظـر الفقير إلا أن غالب أماكنه زحفت عليها الرمال وطمستها وغابت تحتها وفيه إلى الآن بقية صالحة‏.‏

وبنى أيضًا مسجدًا شرقي عمارة السلطان قايتباي ودفن به وقد خرب وانطمست معالمه ولم يبق إلا مدفنه وحوله حائط منهدم من غير باب ولا سقف وقبره ظاهر مكشوف يزار وللناس فيه اعتقاد عظيم‏.‏

ومن كراماته التي أكرمه الله بها أنه يرى على قبره في بعض الليالي المظلمة نور مثل القنديل المستنير يري ذلك سكان العمارة وغيرهم وهو أمر مشهور ومنها أن السفار وقوافل الأعراب ينزلون بأحمالهم حول قبره في الحوطة ويتركونها من غير حارس ليالي وأيامًا آمنين فلا يتعدى عليها سارق البتة ويعتقدون العطب للجاني في بدنه أو ماله وهو أمر مشهور أيضًا مقرر في أذهانهم إلى الآن‏.‏

ومنهـم الإمام الحجة المجتهد الفقيه الأصولي الجدلي صاحب التصحيح والترجيح فخر الدين أبي عمر وعثمان الحنفي الزيلعي شارح الكنز المسمى بتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق المدفون بحوطة سيدي عقبة بن عامر الجهني والشيخ الزيلعي الشافعي المدفون بالقرافة الكبرى وغير هؤلاء كثيـر ببلادهـم وبـأرض الحجـاز ومصـر والقصـد بذلـك التعريـف بالنسبـة قـال تعالـى‏:‏ ‏"‏ وجعلناكـم شعوبـًا وقبائـل لتعارفـوا إن أكرمكـم عنـد الله أتقاكم ‏"‏‏.‏

والنجاشي أول من آمن بالنبي صلـى اللـه عليـه وسلم من الملوك ولم يره وأسلم على يد ابن عمه جعفر بن أبي طالب وزوجه أم حبيبة رضي الله عنها وجهزها من عنده وأرسلها للنبي صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلى المدينة ومن أراد الإطلاع على أخبار النجاشي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلـم وهدايـاه إلـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم وهدايا النبي إليه وبعض أخبار الحبشة وما ورد فيهـم من الآيات والأحاديث والآثار فلينظر في كتاب الطراز المنقوش في محاسن الحبوش للإمام العلامة علاء الدين محمد بن عبد الله البخاري خطيب المدينة المنورة ورفع شأن الحبشان للعلامة جلال الدين السيوطي وتنوير الغبش في فضائلي السودان والحبش لابن الجوزي وفي تفسير البغوى أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات النجاشي كما نحدث أنـه لا يـزال يـرى علـى قبـره نـور وفـي أزهـار العـروش فـي من عرف اسمه من الصحابة الحبوش ومن عبيدة صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنهم أحد كبار المجاهدين والمهاجرين بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولى أبي بكر الصديق وهو أول من أذن الإسلام وأول من ثوب في الفجر كما في الأوائـل للسيوطـي وكـان خـازن رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم على بيت المال كما في تهذيب الأسماء واللغـات وكـان يبـدل الشين بالسينن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه‏:‏ شين بلال سيـن عنـدي وعنـد اللـه‏.‏

وكـان عمـر بـن الخطـاب رضـي اللـه عنـه يقـول‏:‏ كـان أبـو بكـر سيدنا وأعتق سيدنـا يعنـي بلـالًا‏.‏

وروى عنـه كثيـر مـن كبار الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وجابر وأبو سعيد الخدري وكعب بن عرفجة والبراء ابن عازب وغيرهم وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

ومنهم شقران بضم الشيـن المعجمـة مولـى رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم وأمـا خدامـه منالحبشة الأحرار فكثيرون وكذلك الصحابيات من إمائه وأهل بيته‏.‏

ومنهم أم أيمن ذات الهجرتين وهي مرضعته وحاضنته وحليمة السعدية وثويبة وبركة جارية أم حبيبـة وبريـرة مولـاة عائشـة رضـي اللـه عنهـا وتبعة جارية أم هانئ بنت أبي طالب وغفرة وسعيرة كذلك عبيد الصحابة‏.‏

ومنهـم مهجع بكسر الميم وفتح الجيم مولى عمر بن الخطاب وهو أول من استشهد ببدر وكان مـن المهاجريـن الأوليـن وعـده النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم مـن سادات أهل الجنة وقال في شأنه يوم قتل سيد الشهداء‏:‏ مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة‏.‏

ومنهـم أسلـم مولـى عمـر بـن الخطاب وأيمن الحبشي المكي والدعبد الواحد ابن أيمن وبسار مولى المغيـرة بـن شعبـة أخـرج الحسـن بـن محمـد الخلـال فـي كرامـات الأوليـاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قـال‏:‏ دخلـت علـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال لـي‏:‏ يـا أبـا هريـرة يدخـل علي الساعة من هذا البـاب رجـل مـن أجـل السبعـة الذيـن يدفع الله عز وجل عن أهل الأرض بهم الأذى‏.‏

فإذا حبشي قـد طلـع مـن ذلـك البـاب أقـرع أجـدع علـى رأسه جره فيها ماء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا هريرة هو هذا‏.‏

ثم قال مرحبًا بيسار ثلاث مرات وكان يرش المسجد ويكنسه ومات في عهده صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الصحابة الأحرار من الحبوش الأخيار الذين كانوا يخدمون الرسول وأصحابه وأهل بيته فكثيـرون جـدًا لا يمكـن استيعابهـم فـي هذا الاستطراد ضبطًا وعددًا وكذلك أبناء الحبشات من قريش من الصحابة والتابعين وأهل البيت الطاهرين والخلفاء العباسيين ومن ولد بأرض الحبشة من الصحابة من الحبشان مثل صفوان ابن أمية بن خلف الجمحي وعمرو ابن العاص وغيرهما مثـل عبـد اللـه بـن جعفر بن أبي طالب وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة بالاتفاق وكان يسمـى بحـر الجـود وأخباره في السخاء والكرم مشهورة والحرث بن حاطب الصحابي ومحمد بن حاطب وعمرو بن أبي سلمة وفي الحبوش أخلاق لطيفة وشمائل ظريفة وفيهم الحذق والفطانة ولطافة الطباع وصفاء القلوب لكونهم من جنس لقمان الحكيم وهم أجناس منهم السحرتـي والأمحـري وهـم أحسـن أجنـاس الحبـوش الموصوفيـن بالصباحـة والملاحـة والفصاحـة والسماحـة والنعومـة فـي الخـد والرشاقـة فـي القـد وللـه در الشيـخ العلامـة القاضـي عبـد البـر ابـن الشحنة الحنفي حيث يقول‏:‏ فطفقت أسأل عن نعومة ما خفى قالت فما تبغيه جنسي أمحري والأمحرية تفوق على السحرتية باللطف والظف والسحرتية تفوق على الأمحرية بالشدة والعنف فبينهما عموم وخصوص مطلق وقيل أن النجاشي منهم رضي الله عنه ويقال أن بني أرفدة الذين لعبوا بحرابهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفازوا بخطابه أعني قوله لهم دونكم يا بني أرفدة منهم ويقرب من هذين النوعين نوعان آخران نوع الدموات وبلين ونوعان آخران وهما قمو وقتر ونوع آخر يسمى إزاره‏.‏

عود وانعطاف إن الشيـخ عبـد الرحمـن وهـو الجد السابع لجامعه واليه ينتهي علمنا بالأجداد هو الذي ارتحل من بلـاده ووصـل إلينـا خبـره سلفـًا عـن خلـف فقدم من طريق البحر إلى جدة وانتقل إلى مكة فجاور بهـا‏.‏

وحـج مـرارًا وذهب أيضًا إلى المدينة المنورة فجاور بها سنتين ولقي من لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم ثم رجع إلى جدة وحضر إلى مصر من طريق القلزم فدخل إلى الجامع الأزهر في أوائل العاشر وجاور بالرواق ولازم حضور الأشياخ واجتهد في التحصيل وتولى شيخًا على الرواق والتكلم على طائفته وتزوج وولد له‏.‏

فلما مات خلف ولده الشيخ شمس الدين محمد ونشـأ علـى قـدم الصلـاح والاشتغـال بطلـب العلـم وتولـى مشيخـة الـرواق كوالـده وأنجب وقرأ دروسًا في الفقه والمعقول بالرواق وكان على غاية من الصلاح وملازمة الجماعة والسنن ولا يبيت عند عياله ليلـة أو ليلتيـن فـي الجامعـة وغالـب لياليـه يبيتهـا بالـرواق لأجـل الاشتغال بالمطالعة أول الليل على السهارة والتهجد آخره‏.‏

ومما اتفق له وعـد مـن كراماتـه أن السراج انطفأ في بعض الليالي الشتوية فأيقظ النقيب ليسرج له سراجًا فقام من نومه متكرهًا وأخـذ قنديـلًا وذهـب ليسرجـه فلما عاد به وقرب من الرواق رأى نورًا فستر ذلك القنديل ونظر إليـه مـن بعـد لينظـر مـن أيـن أتـاه الأسـراج فوجـده يطالـع فـي الكـراس وهـو فـي يـده اليسار وسبابة يده اليمن رافعها وهي تضيء مثل الشمعة المستنير ويطالع في نورها‏.‏

ثم دخل النقيب بالقنديل فاختفى ذلك الضوء وعلم الشيخ ذلك من النقيب فعاتبه على التجسس وأشار إليه بكتمان سـره ولـم يغـش الشيـخ بعـد ذلـك إلا قليـلًا‏.‏

وتوفـي إلـى رحمـه اللـه تعالـى‏.‏

وخلف ابنه الشيخ علي فنشأ أيضًا على قد أسلافه في ملازمة العلم والعمل وصار شهرة وثروة وتزوج بزينب بنت الإمـام العلامـة القاضـي عبـد الرحمـن الجوينـي ولـم يـزل مواظبـًا علـى شأنـه وطريقـة أسلافـه حتى توفي وخلف ولديه الإمام العلامة الشيخ حسن الذي تقدم ذكر ترجمته المتوفى سنة 1097 وأخاه الشيخ عبد الرحمن ومات في حياة أخيه سنة 1086 وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكهـا وقفتهـا علـى ولـدي زوجهـا المذكوريـن‏.‏

ولمـا توفـي الشيخ حسن أعقب الجد إبراهيم وضيعًا فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ العمدة الضابط محمد بن عمر المنزلي الأنصاري فنشأ أيضـًا نشـوءًا صالحـًا حتـى بلـغ الحلم فزوجوه بستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي فس سنة 108 وبنـى بهـا فـي تلـك السنـة وحملـت بالمترجـم وولدتـه فـي سنـة عشـر ومائـة وألف ومات والده وعمره شهر واحد وسن والده إذ ذاك ست عشرة سنة فربته والدته بكفالة جدته أم أبيه المذكورة وصاية الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه والمتكلم عند الوصي المذكور فتربى في حجورهم حتى ترعرع وحفظ القرآن وعمره عشر سنين واشتغل بحفـظ المتـون فحـظ الألفيـة والجوهـرة ومتـن كنـز الدقائـق فـي الفقـه ومتـن السلم والرحبية ومنظومة ابن الشحنـة فـي الفرائـض وغيـر ذلك‏.‏

واتفق له في أثناء ذلك وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنه مر مع خادمـه بطريـق الأزهـر فنظـر إلـى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار طاعن في السـن والناس يزدحمون على تقبيل يده ويتبركون به فسأل عنه وعرف أنه ابن الشيخ الشرنبلالي فتقدم إليه ليقبل يده كغيره فنظر إليه الشيخ وتوسمه وقبض على يده وقال‏:‏ من يكون هذا الغلام ومن أبوه فعرفوه عنه فتبسم وقال‏:‏ عرفته بالشبه‏.‏

ثم وقف وقال‏:‏ اسمع يا ولدي أنا قـرأت علـى جـدك وهـو قـرأ على والدي وأحب أن تقرأ علي شيئًا وأجيزك وتتصل ببننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد‏.‏

فامتثل إشارته ولازم الحضور عنده في كل يوم وقرأ عليه متـن نـوح الإيضـاح تأليـف والـده في العبادات وكتب له الإجازة ونصها‏:‏ الحمد لله الذي أنعم على عبده بتوفيقه وأرشده إلى سواء طريقه وأذاقه حلاوة التفقه في دينه وتمام تحقيقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنعم بطائف الأنعام وعظيمه ودقيقه وأشهد أن سيدنا وسيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الهادي إلى الخير الكامل والجبر الشامل فأصح كل أحـد مغمـورًا فـي بحـر فضلـه وجوده محفوظًا من كيد الشيطان وجنوده وتعويقه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار‏.‏

وبعد فقد حضر لدي الولد النجيب الموفق اللبيب الفطن الماهر الذكي الباهر سليل العلماء الأعلام نتيجة الفضلاء العظام نور الدين حسن بن برهان الدين إبراهيم بن العلامـة مفتـي المسلمين وإمام المحققين الشيخ حسن الجبرتي الحنفي رحم الله أسلافه وبارك فيه وقـرأ علـى متـن نـور الإيضـاح مـن أولـه إلـى آخـره تأليـف والـدي المندرج إلى رحمة الله تعالى سيدي وسنـدي الإمام العلامة الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي وأجزته أن يروى ذلك عني وجميع ما يجوز لي روايته إجازة عامة كما أجازني به وبفقه أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كما تلقـى ذلـك هـو عـن الشيـخ علي المقدسي شارح نظم الكنز عن العلامة الشلبي شارح الكز عن القاضي عبد البر بن الحشنة عن المحقق الكمال بن الهمام عن سراج الدين قارش الهداية عن علاء الدين السيرامي عن السيد جلال الدين شارح الهداية عن علاء الدين بن عبد العزيز البخـاري عـن حافـظ الديـن صاحـب الكنـز عـن شمـس الأئمـة الكردري عن برهان الدين صاحب الهداية عن فخر الإسلام البـزدوي عـن شمـس الأئمـة السرخسـي عـن شمـس الأئمـة الحلواني عن القاضي ابن علي النسفي عن الإمام محمد بن الفضل البخـاري عـن عبـد اللـه السندموني عن الأمير عبد الله بن أبي حفص البخاري عن أبيه المذكور عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني عن الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه عن الإمام حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي عن الإمام علقمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أمين الوحي جبريل عليه السلام عـن اللـه عـز وجل‏.‏

وأوصى الولد الأعز بالتقوى ومراقبة الله في السر والنجوى والله تعالى يوفقه وينفع به وبعلومـه ويهدينـا وإيـاه لمـا كـان عليـه السلـف الصالـح فـي أسـاس الديـن ورسومه‏.‏

قال ذلك الفقير إلى الله تعالى حسن بن حسن السرنبلالي الحنفـي فـي ثالـث ربيـع الـأول مـن سنـة 1123 وتوفـي الشيـخ فـي آخـر تلـك السنـة وقد جاوز التسعين‏.‏

واشتغل المترجم واجتهد في طلب العلوم وحضر أشياخ العصـر وتفقـه علـى الإمـام العلامة السيد علي السيواسي الضرير وحضر عليه شرح الكنز للعيني والدر المختار وكتاب الأشياه والنظائر لابن نجيم وشرح المنار لابن نجيم وشرح المنار لابن فرشتة وشرح التحرير للكمال بن الهمام وشرح الجوامع ومختصر السعد وعلى العلامة الشيخ أحمد التونسي المعروف بالدقدوسي الحنفي شرح الكنـز للعلامـة الزيلعـي والـدرر لملاخسـرو والسيد علي السراجية في الفرائض وشرح منظومة بن الشحنة في الفرائض والشنشوري على الرحبيـة والتلخيـص ومتـن الحكـم وشـرح التحفـة وعلـى الشيـخ علـي العقـدي النفي ملا مسكين على الكنز ومتن الهداية والسراجية والمنار والنزهة في علم الغبار والقلصادي ومنظومة ابن الهائم وعلى الفقيه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي ملتقى الأبحر وفتح القدير والحكم لابن عطاء الله والقدوري وعقود الجمان فـي المعانـي والبيـان وايساغوجـي وعلـى الشيـخ الفقيـد المحـدث الشهـاب أحمـد بـن مصطفـى الإسكنـدري الشهيـر بالصياغ شرح الكبرى وأم البراهين وشرح العقائد والمواقف وشرح المقاصد للسعد والكشاف والبيضاوي والشمائـل والصحيحيـن روايـة ودرايـة والأربعين النووية والمشارق والقطـب علـى الشمسيـة والمواهـب اللدنيـة وشـرح النخبـة وعلـى الشيخ منصور المنوفي شرح ابن عقيل على الألفية والشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والتوضيح وشرح تصريف العزى وشرح التلمسانية والخبيصي على التهذيـب وشيـخ الإسلـام على الخزرجية وعلى الشيخ عيد النمرمي شرح الورقات والسمقرندية وآداب البحث والعضدية والعصام على السمرقندية وعلم الجبر والمقابلة والعروض وأعمال المناسخات والكسورات والأعداد الصم والغربال والمساحة والحساب وعلى الشيج شلبي البراسي تلخيص المفتاح والمطول والتجويد وعلى الشيخ محمد السجيني الضرير المكودى على الألفية والفاكهي وشرح الشذور وملاجاماي وشرح مختصر ابن الحاجب والمطول وعلى الشيخ أحمد العمادي شرح الجوهرة لعبد السلام والسكتاني على الصغرى وشرح مختصر السنوسي والكافي ونوادر الأصول والجامع الصغير وشرح المقاصد وعلى الشيخ حسن المدابغي الأشموني على الألفيـة وشرح المراح وقواعد الأعراب والمعغنى وعلى الشيخ الملوى شرحه على السلم وشرح معراج الغيطي وأوضح المسالـك وأوائـل الكتـب الستـة والمسلسلـات والمسنـدات وحضـر أيضـًا دروس الشيـخ عبـد الـرؤوف البشبيشـي وأبو العز العجمي وغيرهما وجد في التحصيل حتى فاق أهل عصره وباحث وناضل ودرس بالرواق في الفقه والمعقول وبالسنانية ببولاق‏.‏

وكان لجدته أم أبيه مكان مشرف على النيل بربع الخرنوب عندما كان النيل ملاصقًا لسدته فساكنها مدة فكان يغدو إلى الجامـع ثـم يعـود إلـى بولـاق ولـه حاصـل بربـع الخرنـوب يجلـس فيـه حصـة ثـم يعـود إلـى السنانيـة فيملـي هنـاك درسـًا ثـم احتـرق ذلـك المنـزل بمـا فيـه وتلـف يـه أشيـاء كثيـرة من المتاع والصيني القديم فانتقلـت إلـى مصر وكانوا يذهبون إلى مكان لها بمصر العتيقة في أيام النيل بقصد النزهة وهي التي أعانته على تحصيل العلوم اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشـراء والمشاركـة والمضاربة والمقايضة وكانت جدته ذات غنية وثروة ولها أملاك وعقارات ووقـف عليـه أماكـن ومنها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية ورتبت في وقفها عدة خيرات ومكتب لإقراء أيتام المسلمين بالحانوت المواجه للوكالة المذكـورة وربعـة تقـرأ فـي كـل يـوم وختمـات فـي ليالي المواسم وقصعتي تريد في كل ليلة من ليالي رمضان وثلاث جواميس تفرق على الفقهاء والأيتام والفقراء في عيد الأضحية‏.‏

وتزج بجدته المذكـورة بعـد مـوت جده الأمير علي أغا باش اختيار متفرقة المعروف بالطورى وتزووج المترجم بابنته وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح وكانت إذ ذاك عامـرة وبهـا المرابطـون ويصـرف عليهم العلوفات والاحتياجات‏.‏

ولما مات لي أغا المذكور سنة سبع وثلاثين تقلد ذلك بعده المترجـم مـدة مـع كونـه فـي عـداد العلمـاء وربـي معتوقيـه عثمـان وعليـا ولم يزالا في كنفه حتى مات بعد مدة طويلة وأرسل خادمًا له يسعى سليمان الحصافي جربجيًا على قلعة المويلح فقتلوه هناك فتكدر لذلك وترك هذا الأمر وأعرض عنه وأقبل علـى شأنـه مـن الاشتغـال وماتـت زوجته بنت الأمير علي أغا المذكور في حياة أبيها فتزوج ببنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب تابع كور محمد وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات وأوقاف ومـن ذلـك وكالـة الكتـان وربـع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش وبيت كبير بساحل النيل وآخر تجاه جامع مزره جربجي وهو سكن رمضان جلبي المذكور وكان إنسانًا حسنًا رقيق الحاشية وفيه فضيلة وسليفة جيدة‏.‏ ومات